عانت ليبيا على مدى القرنين الماضيين من عدم وجود أي مصادر مياه رئيسية لتزويد سكانها بالموارد المائية الكافية لأدنى متطلبات المعيشة، فمجمل أراضيها صحراء قاحلة ممتدة من الشرق إلى الجنوب الغربي، حيث تعادل مساحتها ثلاث دول أوروبية مجتمعة.
بالإضافة إلى ذلك، فقد برزت مشاكل أكثر أهمية وخطورة في البلد العربي الصغير مثل عدم وجود توازن اجتماعي وفجوة ديموغرافية ضخمة ، وآثار بيئية سلبية لاستجرار المياه بشكل عشوائي، وموجات الهجرة الاقليمية في جميع أنحاء البلاد، ويؤكد المتخصصون أن أساس كل هذه القضايا والأزمات تعود إلى النقص استقرار المياه في المنطقة، فما هو مدى تلك الادعاءات.
- البدايات
في 8 أغسطس 1984 ، في احتفال كبير في منطقة السرير في الصحراء الليبية ، أطلقت الحكومة مشروع مياه ضخم غير حياة الملايين من الناس ، أطلق عليه اسم “النهر الصناعي”.
فبعد النظر في تكاليف تحلية مياه البحر أو النقل المائي من أوروبا ، تقرر أن الحل المناسب هو إنشاء شبكة خطوط أنابيب لنقل المياه من الصحراء إلى المدن الساحلية حيث غالبية السكان.
كانت ظروف إنشاء “النهر” مرتبطة بمعاناة تلوث الآبار الجوفية، حيث أضحت مصادر المياه في المدن الرئيسية في البلاد ملوثة ، و بات أغلبها غير صالح للشرب أو لأي استخدامات أخرى ، بالإضافة إلى أن العديد من شركات التنقيب عن النفط في الجنوب في خمسينيات القرن الماضي اكتشفت خزانات ضخمة من آبار المياه الجوفية في المنطقة بإمكانها أن تكفي الاحتياج المحلي لمئات السنين.
أصبح النهر الصناعي المصدر الرئيسي لإمدادات المياه في معظم البلدات والقرى في ليبيا ، وقد تم إنشاء هذا المشروع من خلال أنابيب تحت الأرض يبلغ ارتفاع كل منها 7 أمتار ، لتشكل نهرًا ضخمًا تحت الأرض يصل طوله إلى 4000 كم ، يبدأ من واحتي الكفرة والسرير في الجنوب الشرقي ، وصولاً إلى آبار حوض فزان وجبل الحساونة في الجنوب الغربي ، وينتهي بالمدن والقرى في الشمال.
يهدف المشروع في المقام الأول إلى توفير المياه الصالحة للشرب للسكان، وتوليد الكهرباء ، وإقامة المشاريع الزراعية والاستيطانية، وبلغت التكلفة الإجمالية لهذا المشروع ما يقرب من 90 مليون دولار ، وهو ما يمثل عبئًا كبيرًا على ميزانية ليبيا في ذلك الوقت، لذلك شرع السكان المحليون في مهمة تمويله بعد العديد من التوقعات الإيجابية والواعدة التي رافقت المشروع.
ومما لا شك فيه أن النهر الصناعي قد جلب الحياة للشعب الليبي حرفيًا ، وساعد الملايين من المواطنين على بدء مشاريعهم الخاصة وخطط لرفع مستويات الاقتصاد المحلي ، وتحسين مستوى المعيشة ، كما ساعد على إنعاش تصدير البضائع الليبية خارج البلاد، وفي الوقت نفسه ، شهدت الصحراء والمناطق الساحلية تطورًا حضاريًا لافتًا، والذي كان بداية لإقامة العديد من المجتمعات السكنية والبنية التحتية اللازمة للبلاد.
يقوم النهر الصناعي بنقل حوالي 6.5 مليون متر مكعب من المياه النظيفة للأغراض الزراعية والصناعية والشرب كل يوم، وعلى الجانب الآخر يعتبر المشروع المورد الرئيسي للطاقة الكهربائية في البلاد ، حيث أنه ينتج كميات كبيرة جدًا من الطاقة تكفي الأراضي الليبية ويمكن أن تساهم في توصيل الكهرباء لدول أخرى مثل تونس والسودان ومصر.
لم تشهد البلاد أي أزمة في الكهرباء أو الماء أو المنتجات الزراعية في تاريخها بعد إنشاء هذا المشروع، كما تخلصت ليبيا من عواقب الاعتماد على الدول المجاورة لتوفير إمداداتها الرئيسية من المياه والكهرباء والمواد الغذائية الأساسية ، مع السيادة الكاملة على مياهها ، وحققت الاكتفاء الذاتي في احتياجاتها الأساسية.
- مشروع هام.. ولكن!
وعلى الرغم من مزايا المشروع ، وتسويقه مباشرة للناس كأفضل حل لمشاكل الغذاء والماء والجفاف في البلاد ، فقد أعرب بعض المتخصصين عن تحفظاتهم عليه خاصة من الناحية البيئية.
فقد اعتقد عدد من الخبراء أن المشروع هو في المقام الأول مخطط ترويجي للنظام السياسي الحاكم لليبيا في ذلك الوقت، كما أن هناك تباينًا كبيرًا بين الموارد المخصصة لهذا المشروع والفوائد التي حققها.
كما أن الانتقاد الأكبر والرئيسي للمشروع هو تدمير واستنزاف مصادر المياه الجوفية في الصحراء ، والاستهلاك الضخم لتلك الموارد الطبيعية دون حسبان.
- أبرز السلبيات
يتعرض المشروع للعديد من الصعوبات والتحديات والانتقادات، أبرزها من قبل السلطات المحلية نفسها، والتي حذرت من أن “الخطر قد يصل إلى نقطة الأزمة”، وسوف يتحول المشروع إلى إلى “كارثة” في وقت قريب جدًا، وذكرت الأسباب كالتالي:
- أولاً ، هذا المشروع له تأثير خطير على الوضع البيئي في المنطقة، حيث أن احتياطيات المياه غير متجددة ومحدودة ، وبالتالي سوف تُستنزف جميع امدادات المياه الصالحة للشرب في الجنوب ، والتي سوف تؤثر على التربة والحياة البريّة وتتسبب في النزوح الكامل للمدنيين إلى الشمال مع نهاية مخزون المياه الكلي.
- ثانياً ، التكاليف الزائدة ، فالميزانية المقدّرة أصلاً بـ 90 مليون دولار كما ذكرنا ، ارتفعت في نهاية المطاف إلى 120 مليون دولار ، في حين أن العائدات الواردة لا تُذكر، مما يجعل جميع رؤوس الأموال المشاركة في تمويل ميزانية المشروع تضيع تمامًا.
كما أكد الخبراء العثور على حالات لتسرب شديد للمياه وتآكل للأنابيب الناقلة في جميع الفروع تقريبًا ، وكانت أكثر المناطق تضرراً هي القسم الشرقي من واحات الكفرة ، والتي توفر إمدادات المياه لـ 2.9 مليون مواطن، مما يشير إلى المعايير الرديئة في اختيار المواد ، حيث استبُدلت النوعيات الموصى باستخدامها بنوعية رديئة ، ذات قوة تحمّل منخفضة ومعدات أقل كفاءة.
أما الكارثة الكبرى فقد كانت عندما اكتشف فريق من الخبراء أن الأنابيب المستوردة مغلفة بمواد سامة (أسبست ونترات) ، مما يؤكد وجود فساد في اختيار الأنابيب وسط تجاهل تام للمسؤولين.
وأوضح الفريق أن بعض الآبار المكتشفة مؤخرًا قد تعرضت لتسمم مباشر بعد سنوات قليلة من بدء عملية الضخ ، بسبب الإهمال، ونتيجة لذلك فقد أنشأت الدولة العديد من محطات التنقية كحل ، مما زاد التكاليف بسبب عدم وجود دراسة جدوى للمشروع.
تعتبر 95 ٪ من أراضي ليبيا صحراوية و 70 ٪ من الليبيين يعتمدون على المياه التي يتم ضخها من خلال هذا المشروع من منطقة جيولوجية تسمّى “خزان الحجر الرملي النوبي” الذي يغطي معظم الجنوب والجنوب الشرقي من ليبيا، أما العمود الفقري للمشروع وسر استمراره رغم الصعوبات خاصة في أوقات الحرب ، هو مصنع أنابيب البريقة ، والذي يمنع أي تسرب أو انكسار في نظام الأنابيب ، ويزود المهندسين بالمعدات التي يحتاجون إليها.
تعرضت منشآت هذا المشروع للهجوم بالقصف البري والجوي عدة مرات منذ عام 2011 ، كما كان هدفًا للتفجيرات وأعمال التخريب والسرقة حتى الآن دون أي نوع من الحماية.
يعد الاحتكار والتحكم في المياه من القضايا المهمة للسياسة العالمية، و من المعروف أن هناك أربعة مستودعات للمياه الجوفية الكبيرة في جنوب ليبيا، وتقع في واحات الكفرة ، سرت ، مرزق والحمادة، ووفقًا لبعض البيانات ، يبلغ متوسط محتوى الماء 35000 كم 3، ومن أجل إدراك حجم هذا الخزان المائي الشاسع ، لا يمكننا إلا أن نتصور أن كمية المياه تساوي بحيرة بحجم ألمانيا على عمق 100 متر، فلا شك في أن هذه الكميات الكبيرة من المياه تثير طموحات دولية واقليمية ، لا تقل عن طموحات السيطرة على النفط الليبي.
ومن المعروف أن المشروع سبق وأن تمت إدارته وتنفيذه وتشغيله وصيانته بواسطة مجموعة من الكوادر البشرية المتميزة التي مثلت عددًا من الشركات الاستشارية والتنفيذية العالمية، وفي فترة الحرب ، بذلت هذه الشركات جهودًا كبيرة لتعويضها بالمؤهلات الليبية ، ولكن بسبب صعوبة الوضع الأمني ، غادرت العديد من القوى العاملة الوطنية المنطقة ، حيث بات من الصعب للغاية تعويضها بسبب توقف البرامج التدريبية والمشاكل المالية المتزايدة ، لذا فالمشروع يواجه مشاكل تقنية ولوجستية خطيرة.
وفي نفس السياق، تشكل قضية نقص الموارد والدعم الفني أمرًا شديد الخطورة، حيث أنها تحرم العمال في المشروع من أهم المتطلبات والاحتياجات الأساسية ، وتمنعهم من الميزانيات اللازمة لإكمال العمليات في مجال الصيانة واتمام المراحل الهامة التي يجب الانتهاء منها.
- ما بعد 2011
هناك العديد من المخاطر التقنية الناتجة عن الاعتداء على منشآت المشروع ، بدءًا من السلوكيات غير القانونية للمواطنين ، والربط العشوائي للصمامات واستخدام نظام الأنابيب بشكل غير قانوني ، دون مراعاة معايير التشغيل.
بالإضافة إلى استخدام خطوط الصرف الصحي لري المزارع والماشية بشكل عشوائي ، مما يؤثر على التوازن الهيدروليكي التشغيلي للنظام ، وتولد ضغطًا مرتفعًا بسبب القفل والفتح المفاجئ ، لذلك عادةً ما تكون النتيجة كارثية تمامًا ، فقد رأى الليبيون العديد من هذه الحالات بعد الثورة والعمليات العسكرية في عام 2011.
هذه المعلومات أكدتها عدة مصادر داخل المشروع، والتي أكدت أنه يعاني خسائر فادحة بسبب سرقة المياه بصورة غير شرعية والربط العشوائي للمواطنين ، ويبدو أن كمية المياه المهدرة أثناء صيانة كل ضرر هائلة وتصل إلى أكثر من 70 ألف متر مكعب في وقت واحد ، هذه الكمية يمكن أن توفر لبلد مثل بلجيكا المياه لعدة أشهر!.
هناك أكثر من 160 بئرًا من 484 بئراً قد تضررت مؤخرًا بسبب هذه التجاوزات ، بما في ذلك التخريب أثناء الاشتباكات ، ومهاجمة العمال والمهندسين داخل الحقول ، والبناء العشوائي تحت أساسات المشروع وأنابيبه ، مما يؤثر بشكل خطير على البيئة المحلية.
- مخاوف مستمرة
ويؤكد الموظفون داخل المشروع أن الصعوبات ناجمة عن الإغلاقات المتكررة للمشروع نتيجة الاحتجاجات السياسية ، والمطالب الاقتصادية ، وربما حتى المشاكل الشخصية ، بما في ذلك تهديد أحد المواطنين بتفجير الخزانات ردًا على اختطاف أحد أقاربه في طرابلس عام 2014.
تفقد ليبيا حوالي 80٪ من المياه التي يتم إرسالها عبر الأنابيب كل يوم، والتي يقوم المواطنون يوميًا باستجرارها بطريقة غير قانونية، ونتيجة لتكرر الاعتداءات دعا العديد من حكماء المناطق لمعالجة هذا النزاع والمساهمة في وقف أزمات المياه في بعض المدن ، والحاجة إلى وقف مثل هذا السلوك الضار على البيئة المحلية “.
وعلى الرغم من كونه أكبر مشروع للمياه في المنطقة ، وصرف مئات الملايين لتنفيذه لتوفير المياه من الصحاري القاحلة في جنوب البلاد إلى المدن الساحلية الشمالية على البحر الأبيض المتوسط ، إلا أن ليبيا تواجه خطر نقص المياه في السنوات القادمة بسبب عدم استعداد البنية التحتية المرتبطة بالمياه ، والإهمال التام من جانب الحكومات المتعاقبة ، وغياب المنظمات البيئية ، وعدم وعي المواطن الليبي الذي لا يدرك أهمية المياه ، ولا يعرف حقيقة أن حروب هذا القرن ستتسبب بها المياه.
لا يزال المشروع في حاجة ماسة إلى المراجعة البيئية وتحديث أنظمته ومرافقه ، والتي لم يتم تحديثها منذ سنوات عديدة ، ولطلب المساعدة من الدول والمنظمات التي لديها خبرة كافية في هذا المجال.
علي محفوظ