( قصة: عائشة إبراهيم )
في ذلك اليوم الصيفي، لفحت الرمضاء جيوب الأرض، وتثنى الصهيد يلثم الجدران فينبعث منها لافح يقشّر الأبدان، لكن مسعود استجمع ما لديه من عزيمة، وخرج باتجاه مقبرة القرية ليزور قبر أمه قبل أن يغادر إلى العاصمة بعد سويعات.
الطريق إلى المقبرة، لا يختلف عن المقبرة نفسها، كلاهما ساكن إلى حد الوحشة، متعرج في قسوة، تنطلق منه همهمات خافتة، تحمل ريح الأولين، وخيالات الآخِرين، ومسعود يتأسى عن فزعه، بقراءة بعض الأدعية، ويسرع في مشيه متجنبا الالتفات إلى الوراء، خشية أن يرى ظلّه، الذي قد لا يشبهه!.
دفع الباب الخشبي الصغير، فأحدث صريرا قطع سكينة المكان، وأطلق وابلا من الصدى سقط على إثره الرمل من سقف الحائط القديم، حيث خلوة (المرابط) ذلك المكان الذي يتبرك فيه الزوار، يضعون فيه بعض الدراهم المعدنية، ويقرؤون ما تيسر لهم من السور القصار.
دخل الخلوة، كانت مترعة الأنس وباردة، رملها ناعم مثل وسادة من الريش، ورائحة البخور المستكيّ تنعش الجدران الطينية، وسقف (الزنور) تتدلى منه سبح ملونة، وتمائم وأعلام بيضاء، وأخرى مضرجة بالحناء. ويتصدّر الغرفة صندوق كبير من الخشب يتربع كمنضدة كبيرة، مغلّفة بأقمشة خضراء، وفوقها بعض المصاحف الصغيرة، وكتب أخرى شحيحة اللون، باهتة الأوراق.
أحس بنشوة من الطمأنينة والأمان، فغرس قدميه في قاع الرمل الرطب، ورفع يديه نحو الصندوق الخشبي وكاد أن يبدأ الدعاء، فاجأه صوت ضعيف، من تحت الصندوق، في وتيرة واثقة: كيف حالك يا مسعووووووود؟؟
ولم يلتفت مسعود نحو مصدر الصوت القادم من خلف الصندوق، فقط ، أطلق ساقيه للريح، وترك حذاءه عند باب المقبرة.
عندما عاد بعد فترة إلى القرية، أخبره والده العجوز أن الصبي الدرويش، الذي كان يجمع النقود المعدنية من الخلوة، قد أرسل له حذاءه.